موعد مع الماضي....... بقلم الشاعر / مازن
موعد مع الماضي....
على جذع خشبي عملاق ، تحت شجرة جوز وارفة ، جلسا متلاصقين .... أحسا أن لحظات الوداع الأخيرة تمر مسرعة ، وكأن الزمن غير مشفق على قلبين عاشقين...
يطيل النظر إلى عينيها العسليتين ، وهي ممسكة بأطراف أنامله ، تأرجح يده برقة ، ورجلاها ممدودتان تتكئان على رجليه المعقودتين ، غير عابئة بالعيون الفضولية التي ترمقهما...وبلهجة غنج ودلال سألته : لو تقابلنا هنا بعد ثلاثين عاماً..ترى ما سيكون الحال؟
لم يُعر سؤالها الغريب كثير اهتمام ، واكتفى بنظرة حانية لوجه حبيب سيغادره بعد سويعات ، عائداً لوطنه الأم ، ولا يعلم أيجود الزمان عليه بلقاء آخر ، أم هو آخر العهد بتلك العيون...
وبقوة ، شدت يده ، كأنها توقظه من حلم ، وكررت السؤال:
قل لي...لو التقينا بعد 300 عاما..هنا في نفس المكان والزمان... ترى ماسيكون شعورنا؟؟
استيقظ من شروده ، وهو جالس أمام التلفاز ، وهمس بصوت خافت : ياااه... ثلاثون عاماً مضت كلمح البصر.. ثلاثون عاماً منذ التقينا ذات صيف ، ثلاثة عقود فصلتني عن أول حب تذوقته في حياتي ، عن أجمل صبية قابلتها صدفة في ترحالي...
لم أكن يومها أصدّق أن أقع بغرامها ، أو أن تبادلني نفس الشعور ...هي التي تتنافس عليها القلوب.... لم أكن أحلم أن ألقى منها اهتماما ، وأنا الشاب الخجول المتواضع... لا أنسى يوم طلبت رقم هاتفي ، و تلعثمتُ وانعقد لساني...يومها ودعتني قائلة : لاتهتم ، سأصلُ إليك بطريقتي..
كنت أظن أن لقاءنا بات مستحيلاً ، فأنّى لها أن تعرف مكاني في تلك البلدة المكتظة بالسواح...
كأني كنت بالأمس معها... ها هي ماثلة أمامي ، أحس بدفء يدها ، أسمع صدى ضحكاتها ، رنة صوتها ، حركاتها التي تلفت الانظار ، شعرها الغجري الأشقر ... كلها تشي أنها في ربيعها العشرين كانت تعيش أجمل أيام شبابها الغض...
أمام ناظره...مرَّ شريط ذكريات مضى عليه زمن طويل ، فمُسح منه ما مُسح ، وبقي أثرٌ لخيالات مشوشة ، و صور مبعثرة ، حاول جاهداً تجميعها ما أسعفته الذاكرة...
بتثاقلٍ أوى لسريره ، محاولا النوم...لكن أنّى له أن يغفو و عواصف الذكرى تقضُّ مضجعه..
كان توتره تلك الليلة على أشدّه ، فالتاريخ الذي حدداه معا منذ 30 عاما ، أضحى قاب قوسين أو أدنى... أسبوع واحد يفصله عن ذاك الموعد ... ويحدّث نفسه..ترى هل ستأتي؟؟هل مازالت تذكر عهدنا الماضي؟؟؟ وتدور برأسه أسئلة شتى ، بلا جواب... لكنه قرر في نهاية المطاف أن يكون في المكان والزمان المحددين.....
وبعد أن أنهكه التفكير ، أخلد لنوم عميق...
أزف اليوم الموعود، وقبل ساعات بدأ يتهيأ للسفر..حاول جاهدا أن يبدو بأفضل حال قدر المستطاع...نظر للمرآه، وتوقف لحظة ... أحَسَّ وكأنه ينظر لوجهه أول مرة منذ ذاك العهد....رأى وجهاً غريباً عليه... رجلاً غزا الشيب شعره ، وحفر الزمن أخاديد في ناصيته ...أين ذهب ذاك الشاب اليافع؟؟؟ ...
غَضَّ الطرفَ بحسرة دفينة ، وحمل حقيبته ، ومضى....
لم يكن الوصول للمكان صعباً ، رغم التغييرات التي طرأت على مجمل المنطقة... فشجرة الجوز العملاقة التي تحمل أول حرفين من إسميهما باقية كما هي.... والجذع الخشبي تحتها ، كأنه ينتظر حبيبين قطعا عهداً عنده ذات يوم.....
ما أن وصل ، حتى تسمر في مكانه كمن مسه طائف من الجن... لمحها قادمةً من البعيد ... هي بشحمها ولحمها ، شعرها الأشقر ، جسمها ، ملامحها ، والأهم عيناها العسليتان...لم تغيرها الأيام، ولم تنل منها السنين...
كانت تتلفتُ يُمنة ويُسرة كمن يبحث عن شيء فقده...
وبتردد و وجل ، تقدّم منها ، وهو يحدث نفسه ، كيف كسرت قوانين الطبيعية؟؟ما سر بقائها شابة طوال تلك المدة؟؟؟ أتراها تجرعت إكسير الشباب؟؟......
بصوت راجف ، بادرهاالسلام ، مناديا اسمها...
التفتت نحوه ، وابتسمت ...
- أهلا بك...كنت واثقةً أنك ستحضر ، كنت واثقة.
أمّا هو فقد ألجمه الموقف. وكما عقد الخجلُ لسانه ذات يوم ، فقد أعجزه الكلام....
وبسرعة ، قطعت حبل الصمت وقالت:
أنا ابنتها....
نزلت كلمتها كالصاعقة على رأسه.
- ابنتها؟؟؟ .. يا للهول ، شبه غير معقول...
تبسمت الصبية وأردفت:
نعم...الكل يقول قولك...
مدت يدها وناولته ظرفاً أبيضَ مكتوب على
ظهره : إلى حبي الأول....
-هذا لك..من والدتي....
وبابتسامة خفيفة ، غادرت الشابة المكان بعد أن ألقت تحيةً مقتضبةً ، تاركة إياه غارقا في الذهول...
فتح الظرف ، والهواجس في رأسه تدور ، وقلبه يخفق بقوة...وبدأ يقرأ:
بينما أنت الآن تقف تحت شجرتنا ، وعلى مقعدنا ، تقرأ رسالتي هذه ، أكون أنا ...أكون في عالم آخر غير عالمكم...أكون قد رحلت ، وغيبني الردى...
انتظرتُ هذا اليوم طويلا..كنتُ أعدُّ الأيام كي ألقاك ثانية ، كنت أعيشُ حلم هذا اللقاء في هذا المكان ، لكن للقدر قرار آخر... وهل هناك ماهو أمضى من كلمة القدر؟؟؟؟
منذ سنوات قليلة ، كان أيضا للقدر كلمته الفصل ، فأصبت بالمرض العضال ، وأيقنت أني ﻻمحالة راحلة...
كم تمنيتُ لو أني لم اقترح تلك المدة الطويلة...
بقدر ما أنا متألمة وآسفة على نفسي ومرضي ، فأنا حزينة لأجلك... لقد خيبت أملك ...وكأني أرى اللحظة من السماء ملامحَ وجهك الحزين...
لعل أجمل ما بهذا الرحيل رغم قسوته ، أننا مازلنا نحتفظ في ثنايا الروح بأطيافنا يوم كنا شبابا.... مازلتَ في نظري ذاك الشاب الخجول... وليتني أبقى بقلبك تلك الصبية الشقراء التي من أجلها تكبدت عناء السفر...
في كل مساء ، ستراني نجمة بين النجوم... سآتيك نسمةً ربيعية ، غيمة خريف رمادية...
قطرة مطر شتائية .. شعاع شمس صيف دافئ ....فاصغ لصوتي ....
غبت عنك جسدا لم يكتب له بقاء ولا لقاء..و ها أنا أعود لك طيفاً خالداً ، طالما الله يشاء...
محبتك...
مازن...

تعليقات
إرسال تعليق